عدد تصفح الموقع
اضغط على الآية لمعرفة المزيد
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 20 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 20 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 184 بتاريخ الثلاثاء أكتوبر 29, 2024 2:23 pm
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 206 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو Nour El Houda Khaldi فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 71341 مساهمة في هذا المنتدى في 44690 موضوع
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
صفحة 1 من اصل 1
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
ابن زيدون " بين الإبداع والطموح وفاته: 1 من رجب 463هـ أبو الوليد / أحمد بن زيدون المخزومي الأندلسي ، برع " ابن زيدون " في الشعر كما برع في فنون النثر ، حتى صار من أبرز شعراء الأندلس المبدعين وأجملهم شعرًا وأدقهم وصفًا وأصفاهم خيالا، كما تميزت كتاباته النثرية بالجودة والبلاغة ، وتعد رسائله من عيون الأدب العربي .
الميلاد والنشأة :
ولد الشاعر " أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أحمد بن غالب بن زيد المخزومي " سنة [394هـ= 1003م] بالرصافة من ضواحي قرطبة ، وهي الضاحية التي أنشأها " عبد الرحمن الداخل " بقرطبة ، واتخذها متنزهًا له ومقرًا لحكمه ، ونقل إليها النباتات والأشجار النادرة ، وشق فيها الجداول البديعة حتى صارت مضرب الأمثال في الروعة والجمال ، وتغنّى بها الكثير من الشعراء .
وفي هذا الجو الرائع والطبيعة البديعة الخلابة نشأ ابن زيدون ؛ فتفتحت عيناه على تلك المناظر الساحرة والطبيعة الجميلة ، وتشربت روحه بذلك الجمال الساحر ، وتفتحت مشاعره ، ونمت ملكاته الشاعرية والأدبية في هذا الجو الرائع البديع .
وينتمي " ابن زيدون " إلى قبيلة " بني مخزوم " العربية ، التي كانت لها مكانة عظيمة في الجاهلية والإسلام ، وعرفت بالفروسية والشجاعة .
وكان والده من فقهاء " قرطبة " وأعلامها المعدودين ، كما كان ضليعًا في علوم اللغة العربية ، بصيرًا بفنون الأدب ، على قدر وافر من الثقافة والعلم .
أما جده لأمة " محمد بن محمد بن إبراهيم بن سعيد القيسي " فكان من العلماء البارزين في عصره ، وكان شديد العناية بالعلوم ، وقد تولى القضاء بمدينة " سالم "، ثم تولى أحكام الشرطة في " قرطبة ".
كفالة الجد :
وما كاد " ابن زيدون " يبلغ الحادية عشرة من عمره حتى فقد أباه ، فتولى جده تربيته ، وكان ذا حزم وصرامة ، وقد انعكس ذلك على أسلوب تربيته لحفيده ، وهو ما جنبه مزالق الانحراف والسقوط التي قد يتعرض لها الأيتام من ذوي الثراء .
واهتم الجد بتربية حفيده وتنشئته تنشئة صحيحة وتعليمه العربية والقرآن والنحو والشعر والأدب ، إلى غير ذلك من العلوم التي يدرسها عادةً الناشئة ، ويقبل عليها الدارسون .
وتهيأت لابن زيدون - منذ الصغر - عوامل التفوق والنبوغ ، فقد كان ينتمي إلى أسرة واسعة الثراء ، ويتمتع بالرعاية الواعية من جده وأصدقاء أبيه ، ويعيش في مستوى اجتماعي وثقافي رفيع ، فضلا عما حباه الله به من ذكاء ونبوغ ، وما فطره عليه من حب للعلم والشعر وفنون الأدب .
ابن زيدون متعلمًا :
ومما لا شك فيه أن " ابن زيدون " تلقى ثقافته الواسعة وحصيلته اللغوية والأدبية على عدد كبير من علماء عصره وأعلام الفكر والأدب في الأندلس ، في مقدمتهم أبوه وجده ، ومنهم كذلك " أبو بكر مسلم بن أحمد بن أفلح " النحوي المتوفى سنة [433هـ=1042م] وكان رجلاً متدينًا ، وافر الحظ من العلم والعقيدة ، سالكًا فيها طريق أهل السنة ، له باع كبير في العربية ورواية الشعر .
كما اتصل " ابن زيدون " بكثير من أعلام عصره وأدبائه المشاهير ، فتوطدت علاقته - في سن مبكرة - بأبي الوليد بن جَهْور الذي كان قد ولي العهد ثم صار حاكمًا ، وكان حافظًا للقرآن الكريم مجيدًا للتلاوة ، يهتم بسماع العلم من الشيوخ والرواية عنهم ، وقد امتدت هذه الصداقة بينهما حتى جاوز الخمسين ، وتوثقت علاقته كذلك بأبي بكر بن ذَكْوان الذي ولي منصب الوزارة ، وعرف بالعلم والعفة والفضل ، ثم تولى القضاء بقربة فكان مثالا للحزم والعدل ، فأظهر الحق ونصر المظلوم ، وردع الظالم .
ابن زيدون وزيرًا :
كان " ابن زيدون " من الصفوة المرموقة من شباب قرطبة ؛ ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن يشارك في سير الأحداث التي تمر بها .
وقد ساهم " ابن زيدون " بدور رئيسي في إلغاء الخلافة الأموية بقرطبة ، كما شارك في تأسيس حكومة جَهْوَرِيّة بزعامة " ابن جهور "، وإن كان لم يشارك في ذلك بالسيف والقتال ، وإنما كان له دور رئيسي في توجيه السياسة وتحريك الجماهير ، وذلك باعتباره شاعرًا ذائع الصيت ، وأحد أعلام " قرطبة " ومن أبرز أدبائها المعروفين ، فسخر جاهه وثراءه وبيانه في التأثير في الجماهير ، وتوجيه الرأي العام وتحريك الناس نحو الوجهة التي يريدها .
وحظي " ابن زيدون " بمنصب الوزارة في دولة " ابن جهور "، واعتمد عليه الحاكم الجديد في السفارة بينه وبين الملوك المجاورين ، إلا أن " ابن زيدون " لم يقنع بأن يكون ظلا للحاكم ، واستغل أعداء الشاعر ومنافسوه هذا الغرور منه وميله إلى التحرر والتهور فأوغروا عليه صدر صديقه القديم ، ونجحوا في الوقيعة بينهما ، حتى انتهت العلاقة بين الشاعر والأمير إلى مصيرها المحتوم .
ابن زيدون وولادة :
كان ابن زيدون شاعرًا مبدعًا مرهف الإحساس ، وقد حركت هذه الشاعرية فيه زهرة من زهرات البيت الأموي ، وابنة أحد الخلفاء الأمويين ، وهي " ولادة بنت المستكفي "، وكانت شاعرة أديبة ، جميلة الشكل ، شريفة الأصل ، عريقة الحسب ، وقد وصفت بأنها " نادرة زمانها ظرفًا وحسنًا وأدبًا ".
وأثنى عليها كثير من معاصريها من الأدباء والشعراء ، وأجمعوا على فصاحتها ونباهتها ، وسرعة بديهتها ، وموهبتها الشعرية الفائقة ، فقال عنها " الصنبي " : " إنها أديبة شاعرة جزلة القول ، مطبوعة الشعر ، تساجل الأدباء ، وتفوق البرعاء ".
وبعد سقوط الخلافة الأموية في " الأندلس " فتحت ولادة أبواب قصرها للأدباء والشعراء والعظماء ، وجعلت منه منتديًا أدبيًا ، وصالونًا ثقافيًا ، فتهافت على ندوتها الشعراء والوزراء مأخوذين ببيانها الساحر وعلمها الغزير .
وكان " ابن زيدون " واحدًا من أبرز الأدباء والشعراء الذين ارتادوا ندوتها ، وتنافسوا في التودد إليها ، ومنهم " أبو عبد الله بن القلاس "، و" أبو عامر بن عبدوس " اللذان كانا من أشد منافسي ابن زيدون في حبها ، وقد هجاهما " ابن زيدون " بقصائد لاذعة ، فانسحب " ابن القلاسي "، ولكن " ابن عبدوس " غالى في التودد إليها ، وأرسل لها برسالة يستميلها إليه ، فلما علم " ابن زيدون " كتب إليه رسالة على لسان " ولادة" وهي المعروفة بالرسالة الهزلية ، التي سخر منه فيها ، وجعله أضحوكة على كل لسان ، وهو ما أثار حفيظته على " ابن زيدون "؛ فصرف جهده إلى تأليب الأمير عليه حتى سجنه ، وأصبح الطريق خاليًا أمام " ابن عبدوس " ليسترد مودة " ولادة ".
الفرار من السجن :
وفشلت توسلات " ابن زيدون " ورسائله في استعطاف الأمير حتى تمكن من الفرار من سجنه إلى " إشبيلية "، وكتب إلى ولادة بقصيدته النونية الشهيرة التي مطلعها :
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
= وناب عن طيب لقيانا تجافينا
وما لبث الأمير أن عفا عنه ، فعاد إلى " قرطبة " وبالغ في التودد إلى " ولادة "، ولكن العلاقة بينهما لم تعد أبدًا إلى سالف ما كانت عليه من قبل ، وإن ظل ابن زيدون يذكرها في أشعاره ، ويردد اسمها طوال حياته في قصائده .
ولم تمض بضعة أشهر حتى توفي الأمير ، وتولى ابنه " أبو الوليد بن جمهور " صديق الشاعر الحميم ، فبدأت صفحة جديدة من حياة الشاعر ، ينعم فيها بالحرية والحظوة والمكانة الرفعية .
ولكن خصوم الشاعر ومنافسيه لم يكفوا عن ملاحقته بالوشايات والفتن والدسائس حتى اضطر الشاعر ـ في النهاية ـ إلى مغادرة " قرطبة " إلى " إشبيلية " وأحسن " المعتضد بن عباد " إليه وقربه ، وجعله من خواصه وجلسائه ، وأكرمه وغمره بحفاوته وبره .
في إشبيلية :
واستطاع " ابن زيدون " بما حباه الله من ذكاء ونبوغ أن يأخذ مكانة بارزة في بلاط " المعتضد "، حتى أصبح المستشار الأول للأمير ، وعهد إليه " المعتضد "، بالسفارة بينه وبين أمراء الطوائف في الأمور الجليلة والسفارات المهمة ، ثم جعله كبيرًا لوزرائه ، ولكن " ابن زيدون " كان يتطلع إلى أن يتقلد الكتابة وهي من أهم مناصب الدولة وأخطرها ، وظل يسعى للفوز بهذا المنصب ولا يألو جهدًا في إزاحة كل من يعترض طريقه إليه حتى استطاع أن يظفر بهذا المنصب الجليل ، وأصبح بذلك يجمع في يديه أهم مناصب الدولة وأخطرها وأصبحت معظم مقاليد الأمور في يده .
وقضى " ابن زيدون " عشرين عامًا في بلاط المعتضد ، بلغ فيها أعلى مكانة ، وجمع بين أهم المناصب وأخطرها .
فلما توفي " المعتضد " تولى الحكم من بعده ابنه " المعتمد بن عباد "، وكانت تربطه بابن زيدون أوثق صلات المودة والألفة والصداقة ، وكان مفتونًا به متتلمذًا عليه طوال عشرين عامًا ، وكان بينهما كثير من المطارحات الشعرية العذبة التي تكشف عن ود غامر وصداقة وطيدة .
المؤامرة على الشاعر :
وحاول أعداء الشاعر ومنافسيه أن يوقعوا بينه وبين الأمير الجديد ، وظنوا أن الفرصة قد سنحت لهم بعدما تولى " المعتمد " العرش خلفًا لأبيه ، فدسوا إليه قصائد يغرونه بالفتك بالشاعر ، ويدعون أنه فرح بموت " المعتضد "، ولكن الأمير أدرك المؤامرة ، فزجرهم وعنفهم ، ووقّع على الرقعة بأبيات جاء فيها :
كذبت مناكم ، صرّحوا أو جمجموا
= الدين أمتن ، والمروءة أكرم
خنتم ورمتم أن أخون ، وإنما
= حاولتموا أن يستخف " يلملم "
وختمها بقوله محذرًا ومعتذرًا :
كفوا وإلا فارقبوا لي بطشةً
= تلقي السفيه بمثلها فيحلم
وكان الشاعر عند ظن أميره به ، فبذل جهده في خدمته ، وأخلص له ، فكان خير عون له في فتح " قرطبة "، ثم أرسله المعتمد إلى " إشبيلية " على رأس جيشه لإخماد الفتنة التي ثارت بها ، وكان " ابن زيدون " قد أصابه المرض وأوهنته الشيخوخة ، فما لبث أن توفي بعد أن أتمّ مهمته في [ أول رجب 463هـ= 4 من إبريل 1071م] عن عمر بلغ نحو ثمانية وستين عامًا .
غزليات ابن زيدون :
يحتل شعر الغزل نحو ثلث ديوان " ابن زيدون "، وهو في قصائد المدح يبدأ بمقدمات غزلية دقيقة ، ويتميز غزله بالعذوبة والرقة والعاطفة الجياشة القوية والمعاني المبتكرة والمشاعر الدافقة التي لا نكاد نجد لها مثيلا عند غيره من الشعراء إلا المنقطعين للغزل وحده من أمثال " عمر بن أبي ربيعة "، " وجميل بن مَعْمَر "، و" العبّاس بن الأحنف ".
ومن عيون شعره في الغزل تلك القصيدة الرائعة الخالدة التي كتبها بعد فراره من سجنه بقرطبة إلى " إشبيلية "، ولكن قلبه جذبه إلى محبوبته بقرطبة فأرسل إليها بتلك الدرة الفريدة ( النونية ) التي يقول في مطلعها :
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
= وناب عن طيب لقيانا تجافينا
الوصف عند ابن زيدون :
انطبع شعر " ابن زيدون " بالجمال والدقة وانعكست آثار الطبيعة الخلابة في شعره ، فجاء وصفه للطبيعة ينضح بالخيال ، ويفيض بالعاطفة المشبوبة والمشاعر الجياشة ، وامتزج سحر الطبيعة بلوعة الحب وذكريات الهوى ، فكان وصفه مزيجًا عبقريًا من الصور الجميلة والمشاعر الدافقة ، ومن ذلك قوله :
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقًا
= والأفق طلق ، ومرأى الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله
= كأنه رق لي فاعتل إشفاقًا
والروض عن مائة الفضي مبتسم
= كما شققت عن اللبات أطواقًا
نلهو بما يستميل العين من زهر
= جال الندى فيه حتى مال أعناقًا
كأنه أعينه ـ إذ عاينت أرقي ـ
= بكت لما بي ، فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته
= فازداد منه الضحى في العين إشراقًا
سرى ينافحه نيلوفر عبق
= وسنان نبه منه الصبح أحداقًا
الإخوانيات الشعرية عند ابن زيدون :
كان " ابن زيدون " شاعرًا أصيلا متمكنا في شتى ضروب الشعر ومختلف أغراضه ، وكان شعره يتميز بالصدق والحرارة والبعد عن التكلف ، كما كان يميل إلى التجديد في المعاني ، وابتكار الصور الجديدة ، والاعتماد على الخيال المجنح ؛ ولذا فقد حظي فن الإخوانيات عنده بنصيب وافر من هذا التجديد وتلك العاطفة ، ومن ذلك مناجاته الرقيقة لصديقه الوفي " أبي القاسم ":
يا أبا القاسم الذي كان ردائي
= وظهيري من الزمان وذخري
هل لخالي زماننا من رجوع
= أم لماضي زماننا من مكرِّ ؟
أين أيامنا ؟ وأين ليال
= كرياض لبسن أفاق زهر ؟
الفنون النثرية عند ابن زيدون :
اتسم النثر عند " ابن زيدون " بجمال الصياغة ، وكثرة الصور والأخيلة ، والاعتماد على الموسيقا ، ودقة انتقاء الألفاظ حتى أشبه نثره شعره في صياغته وموسيقاه ، وقد وصف " ابن بسام " رسائله بأنها " بالنظم الخطير أشبه منها بالمنثور ".
وبالرغم من جودة نثر " ابن زيدون " فإنه لم يصل إلينا من آثاره النثرية إلا بعض رسائله الأدبية ، ومنها : الرسالة الهزلية : التي كتبها على لسان " ولادة بنت المستكفي " إلى " ابن عبدوس " وقد حمل عليه فيها ، وأوجعه سخرية وتهكمًا ، وتتسم هذه الرسالة بالنقد اللاذع والسخرية المريرة ، وتعتمد على الأسلوب التهكمي المثير للضحك ، كما تحمل عاطفة قوية عنيفة من المشاعر المتبانية : من الغيرة والبغض والحب ، والحقد ، وتدل على عمق ثقافة " ابن زيدون " وسعة اطلاعه .
وقد شرحها " جمال الدين بن نباتة المصري " في كتابه : " سرح العيون "، كما شرحها " محمد بن البنا المصري " في كتابه : " العيون ".
الرسالة الجدية : وقد كتبها الشاعر في سجنه في أخريات أيامه ، يستعطف فيها الأمير " أبا الحزم " ويستدر عفوه ورحمته ، وهي أيضًا تشتمل على الكثير من الاقتباسات والأحداث والأسماء .
ومع أن الغرض من رسالته كان استعطاف الأمير إلا أن شخصية " ابن زيدون " القوية المتعالية تغلب عليه ، فإذا به يدلّ على الأمير بما يشبه المنّ عليه ، ويأخذه العتب مبلغ الشطط فيهدد الأمير باللجوء إلى خصومه .
ولكن الرسالة ـ مع ذلك ـ تنبض بالعاطفة القوية وتحرك المشاعر في القلوب ، وتثير الأشجان في النفوس .
وقد شرحها " صلاح الدين الصفدي " في كتابه : " تمام المتون "، و" عبد القادر البغدادي " في كتابه : " مختصر تمام المتون ".
بالإضافة إلى هاتين الرسالتين فهناك رسالة الاستعطاف التي كتبها الشاعر بعد فراره من سجنه وعودته من " إشبيلية " إلى " قرطبة " مستخفيًا ينشد الأمان ، ويستشفع بأستاذه " أبي بكر مسلم بن أحمد " عند الأمير .
وهذه الرسالة تعد أقوى رسائل " ابن زيدون " جميعًا من الناحية الفنية ، وتمثل نضجًا ملحوظًا وخبرة كبيرة ودراية فائقة بأساليب الكتابة ، وبراعة وإتقان في مجال الكتابة النثرية .
ولابن زيدون كتاب في تاريخ بني أمية سماه " التبيين " وقد ضاع الكتاب ، ولم تبق منه إلا مقطوعتان ، حفظهما لنا " المقري " في كتابه الكبير : " نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب "
. منقول
قصيدة الشاعر / ابن زيدون ذي الوزارتين والتي قالها في ولاّدة بنت المستكفي :
أضـحـى التنـائـي بـديــلاً مـــن تدانـيـنـاونـــاب عـــن طـيــب لقـيـانـا تجـافـيـنـا
ألا وقــد حــان صـبـح الـبـيـن صبـحـنـاحــيــن فــقــام بــنــا لـلـحـيـن نـاعـيـنـا
مـــن مـبـلـغ الملبسـيـنـا بانتزاحـهـمـوحـزنـاً مـــع الـدهــر لا يـبـلـى ويبلـيـنـا
أن الـزمـان الــذي مـــا زال يضحـكـنـاأُنـســاً بقربـهـمـو قــــد عــــاد يبـكـيـنـا
غيظ العدا من تساقينـا الهـوى فدعـوابـــأن نــغــص فــقــال الــدهــر آمـيـنــا
فـانـحـل مـــا كـــان مـعـقـوداً بأنفـسـنـاوأنـبـت مـــا كـــان مـوصــولاً بأيـديـنـا
وقـــد نـكــون ومـــا يـخـشــى تـفـرقـنـافـالـيـوم نـحــن ومـــا يـرجــى تلاقـيـنـا
يـا ليـت شـعـري ولــم نعـتـب أعاديـكـمهــل نــال حـظـاً مــن العتـبـى أعاديـنـا
لـــم نعـتـقـد بـعـدكـم إلا الـوفــاء لـكــمرأيــــاً ولـــــم نـتـقـلــد غــيـــره ديــنـــا
مــا حقـنـا أن تُـقـرّوا عـيـن ذي حـسـدبـنــا ولا أن تــســرّوا كـاشـحــاً فـيـنــا
كـنـا نــرى الـيـأس تسليـنـا عـوارضـهوقـــد يئـسـنـا فــمــا لـلـيــأس يـغـريـنـا
بـنـتـم وبـنــا فــمــا ابـتـلــت جـوانـحـنـاشــوقــاً إلـيــكــم ولا جــفـــت مـآقـيـنــا
نــكـــاد حــيـــن تـنـاجـيـكـم ضـمـائـرنــايقـضـي عليـنـا الأســى لـــولا تأسّـيـنـا
حــالـــت لـفـقـدكـمـو أيـامــنــا فــغـــدتســـوداً وكـانــت بـكــم بـيـضـاً ليـالـيـنـا
إذ جـانـب العـيـش طـلـقٌ مـــن تآلـفـنـاومــورد اللهو صـــافٍ مـــن تصافـيـنـا
وإذ هـصـرنـا فـنــون الـوصــل دانــيــةقـطـافـهــا فـجـنـيـنـا مــنـــه مـاشـيــنــا
ليسـق عهدكـمـو عـهـد الـسـرور فـمـاكــنــتـــم لأرواحــــنــــا إلا ريــاحــيــنــا
لا تـحـسـبـوا نـأيــكــم عــنـــا يـغـيـرنــاإن طــال مــا غـيّــر الـنــأى المحبـيـنـا
والله مــــا طـلــبــت أهــواؤنـــا بـــــدلاًمـنـكـم ولا انـصـرفـت عـنـكـم أمانـيـنـا
ولا استـفـدنـا خـلـيـلاً عـنــك يشغـلـنـيولا اتـخـذنــا بــديـــلاً مــنـــك يـسـلـيـنـا
يا ساري البرق غاد القصر واسق بـهمن كان صـرف الهـوى والـود يسقينـا
واســـأل هـنـالـك هـــل عـنــى تـذكـرنـاإلـــفـــاً تـــذكـــره أمـــســــى يـعـنّـيــنــا
ويــــا نـسـيــم الـصـبــا بــلــغ تحـيـتـنـامـن لـو علـى البعـد حيّـا كــان يحييـنـا
فـهـل أرى الـدهـر يقضـيـنـا مسـاعـفـةًمـنــه وإن لـــم يـكــن غِـبّــاً تقاضـيـنـا
ربــيـــب مــلـــك كــــــأن الله أنـــشـــأهمسـكـاً وقــدر إنـشــاء الـــورى طـيـنـا
أو صـاغــه ورقـــاً مـحـضــاً وتــوّجــهمــن نـاصـع التـبـر إبـداعـاً وتحسـيـنـا
إذا تــــــــــأوّد آدتــــــــــه رفـــاهـــيــــةتـــؤم الـعـقـود وأدمـتــه الـبــرى لـيـنـا
كانـت لـه الشـمـس ظـئـراً فــي أكِلّـتـهبــــل مــــا تـجـلــى لــهــا الا أحـايـيـنـا
كـأنـمـا أُثـبـتـت فـــي صـحــن وجـنـتــهزهــــر الـكـواكــب تـعـويــذاً وتـزيـيـنــا
مـا ضــر أن لــم نـكـن أكـفـاءه شـرفـاًوفـــي الـمــودة كـــافٍ مــــن تكـافـيـنـا
يــا روضــةً طـالـمـا أجـنــت لواحـظـنـاورداً جــلاه الـصـبـا غـضــاً ونسـريـنـا
ويــــــا حـــيـــاة تـمـلـيـنــا بـزهـرتــهــامــنـــىً ضــروبـــاً ولـــــذات أفـانـيــنــا
ويــا نعـيـمـاً خـطـرنـا مـــن غـضـارتـهفـي وشـي نُعـمـى سحبـنـا ذيـلـه حيـنـا
لـسـنــا نـسـمـيـك إجـــــلالاً وتـكــرمــةًوقـــدرك المعـتـلـى عـــن ذاك يغـنـيـنـا
إذا انفـردت ومـا شـوركـت فــي صـفـةفحسـبـنـا الـوصــف إيـضـاحـاً وتبيـيـنـا
يـــا جـنــة الـخـلــد أُبـدلـنــا بـسـدرتـهـاوالـكـوثـر الـعــذب زقـومــاً وغسلـيـنـا
كـأنـنـا لــــم نــبــت والــوصــل ثـالـثـنـاوالسعد قـد غـضّ مـن أجفـان واشينـا
إن كان قد عـزّ فـي الدنيـا اللقـاء بكـمفــي مـوقـف الحـشـر نلقـاكـم ويكفيـنـا
ســرّان فــي خـاطـر الظلـمـاء يكتـمـنـاحـتـى يـكــاد لـســان الـصـبـح يفشـيـنـا
لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهتعـنـه النّـهـى وتركـنـا الصـبـر ناسيـنـا
إنـا قرأنـا الأسـى يــوم الـنـوى ســوراًمـكـتـوبـة وأخــذنــا الـصــبــر تـلـقـيـنـا
أمــــا هــــواك فــلــم نــعــدل بمـنـهـلـهشِـربــاً وإن كـــان يـرويـنــا فيظـمـيـنـا
لــم نـجـف أفــق جـمـال أنــت كـوكـبـهسـالـيـن عـنــه ولـــم نـهـجـره قـالـيـنـا
ولا اخـتـيــاراً تجـنـبـنـاه عــــن كــثـــبلـكــن عَـدَتـنـا عـلــى كــــرهٍ عـواديـنــا
نـأســى عـلـيـك إذا حُـثّــت مشـعـشـعـةفـيــنــا الـشــمــول وغـنّــانــا مـغـنـيـنـا
لا أكـؤس الـراح تـبـدي مــن شمائلـنـاسـيـمـا ارتـيــاح ولا الأوتـــار تلـهـيـنـا
دومـي علـى العهـد ـمادمـنـا ـمحافـظـةًفالـحـر مــن دان إنـصـافـاً كـمــا ديـنــا
فـمـا استعضـنـا خلـيـلاً مـنـك يحبـسـنـاولا اسـتـفـدنـا حـبـيـبـاً عــنــك يـثـنـيـنـا
ولـو صـبـا نحـونـا مــن عُـلـوِ مطلـعـهبـدر الدجـى لـم يكـن حـاشـاك يصبيـنـا
أولــي وفــاءً وإن لـــم تـبـذلـي صـلــةًفـالـذكــر يقـنـعـنـا والـطــيــف يـكـفـيـنـا
وفــي الـجـواب مـتـاع إن شفـعـت بــهبـيـض الأيــادي الـتـي مـازلـت تولـيـنـا
عـلـيـك مـنــا ســـلام الله مــــا بـقـيــتصـبــابــة بـــــك نُـخـفـيـهــا فـتـخـفـيـنـا
الميلاد والنشأة :
ولد الشاعر " أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أحمد بن غالب بن زيد المخزومي " سنة [394هـ= 1003م] بالرصافة من ضواحي قرطبة ، وهي الضاحية التي أنشأها " عبد الرحمن الداخل " بقرطبة ، واتخذها متنزهًا له ومقرًا لحكمه ، ونقل إليها النباتات والأشجار النادرة ، وشق فيها الجداول البديعة حتى صارت مضرب الأمثال في الروعة والجمال ، وتغنّى بها الكثير من الشعراء .
وفي هذا الجو الرائع والطبيعة البديعة الخلابة نشأ ابن زيدون ؛ فتفتحت عيناه على تلك المناظر الساحرة والطبيعة الجميلة ، وتشربت روحه بذلك الجمال الساحر ، وتفتحت مشاعره ، ونمت ملكاته الشاعرية والأدبية في هذا الجو الرائع البديع .
وينتمي " ابن زيدون " إلى قبيلة " بني مخزوم " العربية ، التي كانت لها مكانة عظيمة في الجاهلية والإسلام ، وعرفت بالفروسية والشجاعة .
وكان والده من فقهاء " قرطبة " وأعلامها المعدودين ، كما كان ضليعًا في علوم اللغة العربية ، بصيرًا بفنون الأدب ، على قدر وافر من الثقافة والعلم .
أما جده لأمة " محمد بن محمد بن إبراهيم بن سعيد القيسي " فكان من العلماء البارزين في عصره ، وكان شديد العناية بالعلوم ، وقد تولى القضاء بمدينة " سالم "، ثم تولى أحكام الشرطة في " قرطبة ".
كفالة الجد :
وما كاد " ابن زيدون " يبلغ الحادية عشرة من عمره حتى فقد أباه ، فتولى جده تربيته ، وكان ذا حزم وصرامة ، وقد انعكس ذلك على أسلوب تربيته لحفيده ، وهو ما جنبه مزالق الانحراف والسقوط التي قد يتعرض لها الأيتام من ذوي الثراء .
واهتم الجد بتربية حفيده وتنشئته تنشئة صحيحة وتعليمه العربية والقرآن والنحو والشعر والأدب ، إلى غير ذلك من العلوم التي يدرسها عادةً الناشئة ، ويقبل عليها الدارسون .
وتهيأت لابن زيدون - منذ الصغر - عوامل التفوق والنبوغ ، فقد كان ينتمي إلى أسرة واسعة الثراء ، ويتمتع بالرعاية الواعية من جده وأصدقاء أبيه ، ويعيش في مستوى اجتماعي وثقافي رفيع ، فضلا عما حباه الله به من ذكاء ونبوغ ، وما فطره عليه من حب للعلم والشعر وفنون الأدب .
ابن زيدون متعلمًا :
ومما لا شك فيه أن " ابن زيدون " تلقى ثقافته الواسعة وحصيلته اللغوية والأدبية على عدد كبير من علماء عصره وأعلام الفكر والأدب في الأندلس ، في مقدمتهم أبوه وجده ، ومنهم كذلك " أبو بكر مسلم بن أحمد بن أفلح " النحوي المتوفى سنة [433هـ=1042م] وكان رجلاً متدينًا ، وافر الحظ من العلم والعقيدة ، سالكًا فيها طريق أهل السنة ، له باع كبير في العربية ورواية الشعر .
كما اتصل " ابن زيدون " بكثير من أعلام عصره وأدبائه المشاهير ، فتوطدت علاقته - في سن مبكرة - بأبي الوليد بن جَهْور الذي كان قد ولي العهد ثم صار حاكمًا ، وكان حافظًا للقرآن الكريم مجيدًا للتلاوة ، يهتم بسماع العلم من الشيوخ والرواية عنهم ، وقد امتدت هذه الصداقة بينهما حتى جاوز الخمسين ، وتوثقت علاقته كذلك بأبي بكر بن ذَكْوان الذي ولي منصب الوزارة ، وعرف بالعلم والعفة والفضل ، ثم تولى القضاء بقربة فكان مثالا للحزم والعدل ، فأظهر الحق ونصر المظلوم ، وردع الظالم .
ابن زيدون وزيرًا :
كان " ابن زيدون " من الصفوة المرموقة من شباب قرطبة ؛ ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن يشارك في سير الأحداث التي تمر بها .
وقد ساهم " ابن زيدون " بدور رئيسي في إلغاء الخلافة الأموية بقرطبة ، كما شارك في تأسيس حكومة جَهْوَرِيّة بزعامة " ابن جهور "، وإن كان لم يشارك في ذلك بالسيف والقتال ، وإنما كان له دور رئيسي في توجيه السياسة وتحريك الجماهير ، وذلك باعتباره شاعرًا ذائع الصيت ، وأحد أعلام " قرطبة " ومن أبرز أدبائها المعروفين ، فسخر جاهه وثراءه وبيانه في التأثير في الجماهير ، وتوجيه الرأي العام وتحريك الناس نحو الوجهة التي يريدها .
وحظي " ابن زيدون " بمنصب الوزارة في دولة " ابن جهور "، واعتمد عليه الحاكم الجديد في السفارة بينه وبين الملوك المجاورين ، إلا أن " ابن زيدون " لم يقنع بأن يكون ظلا للحاكم ، واستغل أعداء الشاعر ومنافسوه هذا الغرور منه وميله إلى التحرر والتهور فأوغروا عليه صدر صديقه القديم ، ونجحوا في الوقيعة بينهما ، حتى انتهت العلاقة بين الشاعر والأمير إلى مصيرها المحتوم .
ابن زيدون وولادة :
كان ابن زيدون شاعرًا مبدعًا مرهف الإحساس ، وقد حركت هذه الشاعرية فيه زهرة من زهرات البيت الأموي ، وابنة أحد الخلفاء الأمويين ، وهي " ولادة بنت المستكفي "، وكانت شاعرة أديبة ، جميلة الشكل ، شريفة الأصل ، عريقة الحسب ، وقد وصفت بأنها " نادرة زمانها ظرفًا وحسنًا وأدبًا ".
وأثنى عليها كثير من معاصريها من الأدباء والشعراء ، وأجمعوا على فصاحتها ونباهتها ، وسرعة بديهتها ، وموهبتها الشعرية الفائقة ، فقال عنها " الصنبي " : " إنها أديبة شاعرة جزلة القول ، مطبوعة الشعر ، تساجل الأدباء ، وتفوق البرعاء ".
وبعد سقوط الخلافة الأموية في " الأندلس " فتحت ولادة أبواب قصرها للأدباء والشعراء والعظماء ، وجعلت منه منتديًا أدبيًا ، وصالونًا ثقافيًا ، فتهافت على ندوتها الشعراء والوزراء مأخوذين ببيانها الساحر وعلمها الغزير .
وكان " ابن زيدون " واحدًا من أبرز الأدباء والشعراء الذين ارتادوا ندوتها ، وتنافسوا في التودد إليها ، ومنهم " أبو عبد الله بن القلاس "، و" أبو عامر بن عبدوس " اللذان كانا من أشد منافسي ابن زيدون في حبها ، وقد هجاهما " ابن زيدون " بقصائد لاذعة ، فانسحب " ابن القلاسي "، ولكن " ابن عبدوس " غالى في التودد إليها ، وأرسل لها برسالة يستميلها إليه ، فلما علم " ابن زيدون " كتب إليه رسالة على لسان " ولادة" وهي المعروفة بالرسالة الهزلية ، التي سخر منه فيها ، وجعله أضحوكة على كل لسان ، وهو ما أثار حفيظته على " ابن زيدون "؛ فصرف جهده إلى تأليب الأمير عليه حتى سجنه ، وأصبح الطريق خاليًا أمام " ابن عبدوس " ليسترد مودة " ولادة ".
الفرار من السجن :
وفشلت توسلات " ابن زيدون " ورسائله في استعطاف الأمير حتى تمكن من الفرار من سجنه إلى " إشبيلية "، وكتب إلى ولادة بقصيدته النونية الشهيرة التي مطلعها :
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
= وناب عن طيب لقيانا تجافينا
وما لبث الأمير أن عفا عنه ، فعاد إلى " قرطبة " وبالغ في التودد إلى " ولادة "، ولكن العلاقة بينهما لم تعد أبدًا إلى سالف ما كانت عليه من قبل ، وإن ظل ابن زيدون يذكرها في أشعاره ، ويردد اسمها طوال حياته في قصائده .
ولم تمض بضعة أشهر حتى توفي الأمير ، وتولى ابنه " أبو الوليد بن جمهور " صديق الشاعر الحميم ، فبدأت صفحة جديدة من حياة الشاعر ، ينعم فيها بالحرية والحظوة والمكانة الرفعية .
ولكن خصوم الشاعر ومنافسيه لم يكفوا عن ملاحقته بالوشايات والفتن والدسائس حتى اضطر الشاعر ـ في النهاية ـ إلى مغادرة " قرطبة " إلى " إشبيلية " وأحسن " المعتضد بن عباد " إليه وقربه ، وجعله من خواصه وجلسائه ، وأكرمه وغمره بحفاوته وبره .
في إشبيلية :
واستطاع " ابن زيدون " بما حباه الله من ذكاء ونبوغ أن يأخذ مكانة بارزة في بلاط " المعتضد "، حتى أصبح المستشار الأول للأمير ، وعهد إليه " المعتضد "، بالسفارة بينه وبين أمراء الطوائف في الأمور الجليلة والسفارات المهمة ، ثم جعله كبيرًا لوزرائه ، ولكن " ابن زيدون " كان يتطلع إلى أن يتقلد الكتابة وهي من أهم مناصب الدولة وأخطرها ، وظل يسعى للفوز بهذا المنصب ولا يألو جهدًا في إزاحة كل من يعترض طريقه إليه حتى استطاع أن يظفر بهذا المنصب الجليل ، وأصبح بذلك يجمع في يديه أهم مناصب الدولة وأخطرها وأصبحت معظم مقاليد الأمور في يده .
وقضى " ابن زيدون " عشرين عامًا في بلاط المعتضد ، بلغ فيها أعلى مكانة ، وجمع بين أهم المناصب وأخطرها .
فلما توفي " المعتضد " تولى الحكم من بعده ابنه " المعتمد بن عباد "، وكانت تربطه بابن زيدون أوثق صلات المودة والألفة والصداقة ، وكان مفتونًا به متتلمذًا عليه طوال عشرين عامًا ، وكان بينهما كثير من المطارحات الشعرية العذبة التي تكشف عن ود غامر وصداقة وطيدة .
المؤامرة على الشاعر :
وحاول أعداء الشاعر ومنافسيه أن يوقعوا بينه وبين الأمير الجديد ، وظنوا أن الفرصة قد سنحت لهم بعدما تولى " المعتمد " العرش خلفًا لأبيه ، فدسوا إليه قصائد يغرونه بالفتك بالشاعر ، ويدعون أنه فرح بموت " المعتضد "، ولكن الأمير أدرك المؤامرة ، فزجرهم وعنفهم ، ووقّع على الرقعة بأبيات جاء فيها :
كذبت مناكم ، صرّحوا أو جمجموا
= الدين أمتن ، والمروءة أكرم
خنتم ورمتم أن أخون ، وإنما
= حاولتموا أن يستخف " يلملم "
وختمها بقوله محذرًا ومعتذرًا :
كفوا وإلا فارقبوا لي بطشةً
= تلقي السفيه بمثلها فيحلم
وكان الشاعر عند ظن أميره به ، فبذل جهده في خدمته ، وأخلص له ، فكان خير عون له في فتح " قرطبة "، ثم أرسله المعتمد إلى " إشبيلية " على رأس جيشه لإخماد الفتنة التي ثارت بها ، وكان " ابن زيدون " قد أصابه المرض وأوهنته الشيخوخة ، فما لبث أن توفي بعد أن أتمّ مهمته في [ أول رجب 463هـ= 4 من إبريل 1071م] عن عمر بلغ نحو ثمانية وستين عامًا .
غزليات ابن زيدون :
يحتل شعر الغزل نحو ثلث ديوان " ابن زيدون "، وهو في قصائد المدح يبدأ بمقدمات غزلية دقيقة ، ويتميز غزله بالعذوبة والرقة والعاطفة الجياشة القوية والمعاني المبتكرة والمشاعر الدافقة التي لا نكاد نجد لها مثيلا عند غيره من الشعراء إلا المنقطعين للغزل وحده من أمثال " عمر بن أبي ربيعة "، " وجميل بن مَعْمَر "، و" العبّاس بن الأحنف ".
ومن عيون شعره في الغزل تلك القصيدة الرائعة الخالدة التي كتبها بعد فراره من سجنه بقرطبة إلى " إشبيلية "، ولكن قلبه جذبه إلى محبوبته بقرطبة فأرسل إليها بتلك الدرة الفريدة ( النونية ) التي يقول في مطلعها :
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
= وناب عن طيب لقيانا تجافينا
الوصف عند ابن زيدون :
انطبع شعر " ابن زيدون " بالجمال والدقة وانعكست آثار الطبيعة الخلابة في شعره ، فجاء وصفه للطبيعة ينضح بالخيال ، ويفيض بالعاطفة المشبوبة والمشاعر الجياشة ، وامتزج سحر الطبيعة بلوعة الحب وذكريات الهوى ، فكان وصفه مزيجًا عبقريًا من الصور الجميلة والمشاعر الدافقة ، ومن ذلك قوله :
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقًا
= والأفق طلق ، ومرأى الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله
= كأنه رق لي فاعتل إشفاقًا
والروض عن مائة الفضي مبتسم
= كما شققت عن اللبات أطواقًا
نلهو بما يستميل العين من زهر
= جال الندى فيه حتى مال أعناقًا
كأنه أعينه ـ إذ عاينت أرقي ـ
= بكت لما بي ، فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته
= فازداد منه الضحى في العين إشراقًا
سرى ينافحه نيلوفر عبق
= وسنان نبه منه الصبح أحداقًا
الإخوانيات الشعرية عند ابن زيدون :
كان " ابن زيدون " شاعرًا أصيلا متمكنا في شتى ضروب الشعر ومختلف أغراضه ، وكان شعره يتميز بالصدق والحرارة والبعد عن التكلف ، كما كان يميل إلى التجديد في المعاني ، وابتكار الصور الجديدة ، والاعتماد على الخيال المجنح ؛ ولذا فقد حظي فن الإخوانيات عنده بنصيب وافر من هذا التجديد وتلك العاطفة ، ومن ذلك مناجاته الرقيقة لصديقه الوفي " أبي القاسم ":
يا أبا القاسم الذي كان ردائي
= وظهيري من الزمان وذخري
هل لخالي زماننا من رجوع
= أم لماضي زماننا من مكرِّ ؟
أين أيامنا ؟ وأين ليال
= كرياض لبسن أفاق زهر ؟
الفنون النثرية عند ابن زيدون :
اتسم النثر عند " ابن زيدون " بجمال الصياغة ، وكثرة الصور والأخيلة ، والاعتماد على الموسيقا ، ودقة انتقاء الألفاظ حتى أشبه نثره شعره في صياغته وموسيقاه ، وقد وصف " ابن بسام " رسائله بأنها " بالنظم الخطير أشبه منها بالمنثور ".
وبالرغم من جودة نثر " ابن زيدون " فإنه لم يصل إلينا من آثاره النثرية إلا بعض رسائله الأدبية ، ومنها : الرسالة الهزلية : التي كتبها على لسان " ولادة بنت المستكفي " إلى " ابن عبدوس " وقد حمل عليه فيها ، وأوجعه سخرية وتهكمًا ، وتتسم هذه الرسالة بالنقد اللاذع والسخرية المريرة ، وتعتمد على الأسلوب التهكمي المثير للضحك ، كما تحمل عاطفة قوية عنيفة من المشاعر المتبانية : من الغيرة والبغض والحب ، والحقد ، وتدل على عمق ثقافة " ابن زيدون " وسعة اطلاعه .
وقد شرحها " جمال الدين بن نباتة المصري " في كتابه : " سرح العيون "، كما شرحها " محمد بن البنا المصري " في كتابه : " العيون ".
الرسالة الجدية : وقد كتبها الشاعر في سجنه في أخريات أيامه ، يستعطف فيها الأمير " أبا الحزم " ويستدر عفوه ورحمته ، وهي أيضًا تشتمل على الكثير من الاقتباسات والأحداث والأسماء .
ومع أن الغرض من رسالته كان استعطاف الأمير إلا أن شخصية " ابن زيدون " القوية المتعالية تغلب عليه ، فإذا به يدلّ على الأمير بما يشبه المنّ عليه ، ويأخذه العتب مبلغ الشطط فيهدد الأمير باللجوء إلى خصومه .
ولكن الرسالة ـ مع ذلك ـ تنبض بالعاطفة القوية وتحرك المشاعر في القلوب ، وتثير الأشجان في النفوس .
وقد شرحها " صلاح الدين الصفدي " في كتابه : " تمام المتون "، و" عبد القادر البغدادي " في كتابه : " مختصر تمام المتون ".
بالإضافة إلى هاتين الرسالتين فهناك رسالة الاستعطاف التي كتبها الشاعر بعد فراره من سجنه وعودته من " إشبيلية " إلى " قرطبة " مستخفيًا ينشد الأمان ، ويستشفع بأستاذه " أبي بكر مسلم بن أحمد " عند الأمير .
وهذه الرسالة تعد أقوى رسائل " ابن زيدون " جميعًا من الناحية الفنية ، وتمثل نضجًا ملحوظًا وخبرة كبيرة ودراية فائقة بأساليب الكتابة ، وبراعة وإتقان في مجال الكتابة النثرية .
ولابن زيدون كتاب في تاريخ بني أمية سماه " التبيين " وقد ضاع الكتاب ، ولم تبق منه إلا مقطوعتان ، حفظهما لنا " المقري " في كتابه الكبير : " نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب "
. منقول
قصيدة الشاعر / ابن زيدون ذي الوزارتين والتي قالها في ولاّدة بنت المستكفي :
أضـحـى التنـائـي بـديــلاً مـــن تدانـيـنـاونـــاب عـــن طـيــب لقـيـانـا تجـافـيـنـا
ألا وقــد حــان صـبـح الـبـيـن صبـحـنـاحــيــن فــقــام بــنــا لـلـحـيـن نـاعـيـنـا
مـــن مـبـلـغ الملبسـيـنـا بانتزاحـهـمـوحـزنـاً مـــع الـدهــر لا يـبـلـى ويبلـيـنـا
أن الـزمـان الــذي مـــا زال يضحـكـنـاأُنـســاً بقربـهـمـو قــــد عــــاد يبـكـيـنـا
غيظ العدا من تساقينـا الهـوى فدعـوابـــأن نــغــص فــقــال الــدهــر آمـيـنــا
فـانـحـل مـــا كـــان مـعـقـوداً بأنفـسـنـاوأنـبـت مـــا كـــان مـوصــولاً بأيـديـنـا
وقـــد نـكــون ومـــا يـخـشــى تـفـرقـنـافـالـيـوم نـحــن ومـــا يـرجــى تلاقـيـنـا
يـا ليـت شـعـري ولــم نعـتـب أعاديـكـمهــل نــال حـظـاً مــن العتـبـى أعاديـنـا
لـــم نعـتـقـد بـعـدكـم إلا الـوفــاء لـكــمرأيــــاً ولـــــم نـتـقـلــد غــيـــره ديــنـــا
مــا حقـنـا أن تُـقـرّوا عـيـن ذي حـسـدبـنــا ولا أن تــســرّوا كـاشـحــاً فـيـنــا
كـنـا نــرى الـيـأس تسليـنـا عـوارضـهوقـــد يئـسـنـا فــمــا لـلـيــأس يـغـريـنـا
بـنـتـم وبـنــا فــمــا ابـتـلــت جـوانـحـنـاشــوقــاً إلـيــكــم ولا جــفـــت مـآقـيـنــا
نــكـــاد حــيـــن تـنـاجـيـكـم ضـمـائـرنــايقـضـي عليـنـا الأســى لـــولا تأسّـيـنـا
حــالـــت لـفـقـدكـمـو أيـامــنــا فــغـــدتســـوداً وكـانــت بـكــم بـيـضـاً ليـالـيـنـا
إذ جـانـب العـيـش طـلـقٌ مـــن تآلـفـنـاومــورد اللهو صـــافٍ مـــن تصافـيـنـا
وإذ هـصـرنـا فـنــون الـوصــل دانــيــةقـطـافـهــا فـجـنـيـنـا مــنـــه مـاشـيــنــا
ليسـق عهدكـمـو عـهـد الـسـرور فـمـاكــنــتـــم لأرواحــــنــــا إلا ريــاحــيــنــا
لا تـحـسـبـوا نـأيــكــم عــنـــا يـغـيـرنــاإن طــال مــا غـيّــر الـنــأى المحبـيـنـا
والله مــــا طـلــبــت أهــواؤنـــا بـــــدلاًمـنـكـم ولا انـصـرفـت عـنـكـم أمانـيـنـا
ولا استـفـدنـا خـلـيـلاً عـنــك يشغـلـنـيولا اتـخـذنــا بــديـــلاً مــنـــك يـسـلـيـنـا
يا ساري البرق غاد القصر واسق بـهمن كان صـرف الهـوى والـود يسقينـا
واســـأل هـنـالـك هـــل عـنــى تـذكـرنـاإلـــفـــاً تـــذكـــره أمـــســــى يـعـنّـيــنــا
ويــــا نـسـيــم الـصـبــا بــلــغ تحـيـتـنـامـن لـو علـى البعـد حيّـا كــان يحييـنـا
فـهـل أرى الـدهـر يقضـيـنـا مسـاعـفـةًمـنــه وإن لـــم يـكــن غِـبّــاً تقاضـيـنـا
ربــيـــب مــلـــك كــــــأن الله أنـــشـــأهمسـكـاً وقــدر إنـشــاء الـــورى طـيـنـا
أو صـاغــه ورقـــاً مـحـضــاً وتــوّجــهمــن نـاصـع التـبـر إبـداعـاً وتحسـيـنـا
إذا تــــــــــأوّد آدتــــــــــه رفـــاهـــيــــةتـــؤم الـعـقـود وأدمـتــه الـبــرى لـيـنـا
كانـت لـه الشـمـس ظـئـراً فــي أكِلّـتـهبــــل مــــا تـجـلــى لــهــا الا أحـايـيـنـا
كـأنـمـا أُثـبـتـت فـــي صـحــن وجـنـتــهزهــــر الـكـواكــب تـعـويــذاً وتـزيـيـنــا
مـا ضــر أن لــم نـكـن أكـفـاءه شـرفـاًوفـــي الـمــودة كـــافٍ مــــن تكـافـيـنـا
يــا روضــةً طـالـمـا أجـنــت لواحـظـنـاورداً جــلاه الـصـبـا غـضــاً ونسـريـنـا
ويــــــا حـــيـــاة تـمـلـيـنــا بـزهـرتــهــامــنـــىً ضــروبـــاً ولـــــذات أفـانـيــنــا
ويــا نعـيـمـاً خـطـرنـا مـــن غـضـارتـهفـي وشـي نُعـمـى سحبـنـا ذيـلـه حيـنـا
لـسـنــا نـسـمـيـك إجـــــلالاً وتـكــرمــةًوقـــدرك المعـتـلـى عـــن ذاك يغـنـيـنـا
إذا انفـردت ومـا شـوركـت فــي صـفـةفحسـبـنـا الـوصــف إيـضـاحـاً وتبيـيـنـا
يـــا جـنــة الـخـلــد أُبـدلـنــا بـسـدرتـهـاوالـكـوثـر الـعــذب زقـومــاً وغسلـيـنـا
كـأنـنـا لــــم نــبــت والــوصــل ثـالـثـنـاوالسعد قـد غـضّ مـن أجفـان واشينـا
إن كان قد عـزّ فـي الدنيـا اللقـاء بكـمفــي مـوقـف الحـشـر نلقـاكـم ويكفيـنـا
ســرّان فــي خـاطـر الظلـمـاء يكتـمـنـاحـتـى يـكــاد لـســان الـصـبـح يفشـيـنـا
لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهتعـنـه النّـهـى وتركـنـا الصـبـر ناسيـنـا
إنـا قرأنـا الأسـى يــوم الـنـوى ســوراًمـكـتـوبـة وأخــذنــا الـصــبــر تـلـقـيـنـا
أمــــا هــــواك فــلــم نــعــدل بمـنـهـلـهشِـربــاً وإن كـــان يـرويـنــا فيظـمـيـنـا
لــم نـجـف أفــق جـمـال أنــت كـوكـبـهسـالـيـن عـنــه ولـــم نـهـجـره قـالـيـنـا
ولا اخـتـيــاراً تجـنـبـنـاه عــــن كــثـــبلـكــن عَـدَتـنـا عـلــى كــــرهٍ عـواديـنــا
نـأســى عـلـيـك إذا حُـثّــت مشـعـشـعـةفـيــنــا الـشــمــول وغـنّــانــا مـغـنـيـنـا
لا أكـؤس الـراح تـبـدي مــن شمائلـنـاسـيـمـا ارتـيــاح ولا الأوتـــار تلـهـيـنـا
دومـي علـى العهـد ـمادمـنـا ـمحافـظـةًفالـحـر مــن دان إنـصـافـاً كـمــا ديـنــا
فـمـا استعضـنـا خلـيـلاً مـنـك يحبـسـنـاولا اسـتـفـدنـا حـبـيـبـاً عــنــك يـثـنـيـنـا
ولـو صـبـا نحـونـا مــن عُـلـوِ مطلـعـهبـدر الدجـى لـم يكـن حـاشـاك يصبيـنـا
أولــي وفــاءً وإن لـــم تـبـذلـي صـلــةًفـالـذكــر يقـنـعـنـا والـطــيــف يـكـفـيـنـا
وفــي الـجـواب مـتـاع إن شفـعـت بــهبـيـض الأيــادي الـتـي مـازلـت تولـيـنـا
عـلـيـك مـنــا ســـلام الله مــــا بـقـيــتصـبــابــة بـــــك نُـخـفـيـهــا فـتـخـفـيـنـا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى