عدد تصفح الموقع
اضغط على الآية لمعرفة المزيد
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 26 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 26 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 184 بتاريخ الثلاثاء أكتوبر 29, 2024 2:23 pm
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 206 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو Nour El Houda Khaldi فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 71341 مساهمة في هذا المنتدى في 44690 موضوع
أمراء فى دولة الشعر ...الفرزدق...
صفحة 1 من اصل 1
أمراء فى دولة الشعر ...الفرزدق...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنّ الذي سَمَكَ السّماءَ بَنى لَنَا
بَيْتاً، دَعَائِمُهُ أعَزُّ وَأطْوَلُ
يْتاً بَنَاهُ لَنَا المَلِيكُ، ومَا بَنى
حَكَمُ السّمَاءِ، فإنّهُ لا يُنْقَلُ
الفرزدق
مولده و نشأته:
والفرزدق اسمه همام بصيغة المبالغة من الهمٌة ,سمٌي باسم عمٌه همام بن صعصعة و كان أبوه غالب يناديه بأسم مصغرا هميم وكنيته أبو فراس وهي كنية الأسد أما الفرزدق فلقب غلب عليه وأطال الرواة في سبب تلقيبه و دلالته فقال بعضهم انه كان قصيرا غليظا فشُبه بالفرزدقة و هي الجردقة التي تدق ويشربها النساء , وقيل شبٌه وجهه وكان غليضا جهما وأثر الجذري منطبع فيه بالفرزدق وهو الرغيف الضخم وزعم زاعمون أنه لقب الفرزدق تشبيها له بدهقان الحيرة في تيهه واختلف في أصل الكلمة جعلها بعضهم عربية منحوتة من فرز ودق وجعلها بعضهم فارسية معربة.
وقد عني القدماء باخبار الشاعر وتقصوا أمره وتركوا فيه تآليف عدا الزمن على أكثرها و لم يبق منها الٌا أسماؤها.
ولد الفرزدق في خلافة عمر بن الخطاب في حدود سنة 20 هـ الموافق 641 م بالبصرة التي كانت سوق العرب بعد الاسلام يؤمها الناس للتجارة والمفاخرة والمنافرة وطلب اللغة والادب والشعر . وهُيئت له نشأة طيبة في بيت ورث المجد و فعل المكرمات و كان مألف الاشراف ينتدون فيه, ويتداولون ما يلمّ بهم و يتحدثون بأخبار أسلافهم و يتذاكرون حياة العرب و أيام وقصص فرسانها و أقضية حكامها و يروون ما قاله شعراؤها من فاخر القول و أكرمه. وكان الفرزدق يصغي الى ما يسمع و يحفظ ما يقال, ولقد أوتي الفطنة والذكاء والموهبة اكتسبها من جده صعصعة ذو الرواية الواسعة والمعرفة بأخبار الناس.
وعاش الشاعر الوليد في كنف أبيه غالب ورعايته فأحسن تهديبه و تثقيفه ورواه الشعر وكلام العرب, وكان غالب يؤثر على البصرة الاقامة في بادية بني تميم فنشأ الفرزدق في مرابع كاظمة نشأة فتيان البادية ورث اخلاقها و فضائلها و قبل عاداتها راضيا معتزا و في بادية تميم اتيح له أن ينهل الفصاحة من مناهلها ففتق لسانه وفصح بيانه وأحاط بسر العربية و أوتي القدرة على تشقيق الكلام, فقد كانت تميم من أفصح قبائل العرب.و كان اعرب القوم تميم .لقد كانت بادية تميم أيام الفرزدق تضج بشعرائها الكثر و قد تركت هذه النشأة البدوية آثارها في الشاعر بطابعها فظل طوال حياته يؤثرها.و رأى الفرزدق في أبيه غالب المثل الاعلى الذي يتشوف اليه . و كانت الأيام تزيده إعجابا به و افتخارا, فبالغ في تعظيمه و توقيره و راح يُؤثر خطاه وينهج نهجه , والأب يشجعه على مسلكه .واعتز الفرزدق بأبيه اعتزازا قلٌ أن نجد له نظير. فقد بكاه في شعره لما مات أحر بكاء , وبين عظم الفاجعة فيه :
أبي الصبر أني لا أرى البدر طالعا *** و لا الشمس الا ذكراني بغالب
وادعى أنه ورث أباه في أخلاقه و فضائله :
ورثت أبي أخلاقه عاجل القرى *** و عبط المهارى كومها و شبوبها
وكان الهجاء أول ما تفتحت له نفس الفرزدق . اذ سمع الفرزدق ما قيل يوم صوأر من مفاخرات و مهاجاة بين شعراء حنظلة و يربوع حيث أخذ أحدهم يهجو غالبا والده فامتلأت نفس الفرزدق حنقا وغيظا ,وأخذ يجهد نفسه ليقول كما يُقال لأبيه , حتى لانت له القوافي , و أطاعه القول . واندفع الفرزدق يدافع عن أبيه و أسرته , و نشب الهجاء بينه و بين الأشهب بن رميلة. وأعجب الأب بابنه ,فأخذه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له علي :من هذا معك .قال: ابني و هو شاعر . فقال له: علمه القرآن فانه خير له من الشعر . ولعل عليٌا أراد أن يجنب الفتى قول الرفث و السباب , ليهديه الى ما هو خير . و بعد حين قيد الفتى نفسه ليحفظ القرآن . ثم بدأت بذور الغرام تتفتح بنفس الشاعر عند شبابه و بعد التقائه بظمياء التى شهُر بها و قال فيها :
رأت منقرا سودا قصارا و أبصرت *** فتى دارميا كالهلال يروقها
وهذا ما يدل على أنه لا يبالي الفضيحة و التشهير , و أنه معجبا بنفسه اعجابا تراءى له به. و فوق ذلك تدل القصيدة على تمكن الفرزدق من ناصية الشعر , و موهبته في الوصف و فطرته على الهجاء الذي يمضي به الى الاقذاع الموجع المبكي . بعذ ذلك الافحاش و التشهير بظمياء, قام اللعين المنقري و كانت ظمياء عمته , ينقض على الفرزدق فشهر بشقيقته جعثن , و هنا بدأت معركة الهجاء . اذ ظهر جرير و وقف في وجه الفرزدق يهجوه و يسخر منه .
فراره الى الحجاز:
في سنة 50 هجرية لجأ الشاعر الى الحجاز فارٌا من زياد الذي أشدٌ في طلبه بسبب مهاجاته للأشهب و سبٌه بني نهشل و فقيم, حيث سيد بني نهشل و الأشهب ذو منزلتين و مقامين لدى زياد . و بدأ الشاعر حياة الهرب فالتجأ الى عيسى بن خصيلة السلمي بعد أن تخلى عنه أصدقاؤه و أقرباؤه الذين كان يطمع أن يجد في كنفهم الأمن والسلامة , و اذا الشاعر المتعالي المتباهي يملأ قلبه الشكر و العرفان لمن أمد له يدا أعانته على بلوغ مأمنه, فيمدح عيسى السلمي بقصيدتين جميلتين فيهما عرفان الشاعر بجميل مضيفه و كريم رعايته . فقال:
و من كان يا عيسى يؤنب ضيفه *** فجارك محبور هنيء مطاعمه
و صوٌر الفرزدق خوفه من زياد حتى اعتبر أسدا كان قد لاقاه في طريقه أهون من عاقبة لقيا زياد فقال مخاطبا الأسد :
فلأنت أهون من زياد جانبا *** فاذهب إليك مخرم السفار
قدم الفرزدق المدينة , و أخذ يهجو بني فقيم و يسخر منهم , و كان يتشوق إلى بلده و ما خلفه وراءه . و قد استفتح أولى قصائده بظمياء التي لم يلقها خلال عشر سنوات إذ قال :
إذا أوعدوني عند ظمياء ساءها وعيدي و قالت لا تقولوا له هجرا
و كان الفرزدق يرى في نفسه كل جمال ما دام الشرف و المجد في معتقده رأس كل جمال. كان يحضر مجالس الغناء ويلقى الشعراء , فتعرف على الفتاة الحضرية المدينية و أعجب بها, و تركت في نفسيته أثرا كبيرا دام طيلة حياته .لم يُقدٌر للشاعر البقاء في المدينة يستمرىء هذه الحياة اللينة الوادعة , يخالطها العبث . فقد أقبل في شهر ربيع الأول سنة 53 هـ مروان بن الحكم واليا على المدينة و كان صلبا في ولايته , ضابطا لأموره , لكن الفرزدق لم يلحظ ذلك بل واصل عبثه, و أنشأ قصيدته الرائية الشهيرة , و قد بلغ فيها قمة الجمال في التعبير عن نوازعه و هواجس حسه , حتى قيل فيه : " كان الفرزدق يعهر و يستبهر بالفواحش , لا يبقي على نفسه و لا يستتر ". و هذا ما أثار أهل المدينة , و أنذر مروان الشاعر بمغادرة المدينة .فخرج الى مكة الا أنه لم يمكث بها الا قليلا ثم عاد الى البصرة وأخد يصور في شعره كل ما يحيطه و يحكي أحداث عصره و يتصدى للدفاع عن مواقف قومه و قد ضاع الكثير من شعره في هذه الفترة, فليس في ديوانه الا مقطوعة في مديح ابن زياد . و قصيدة في مديح عبد الرحمن بن الحكم والي الكوفة سنة 58 هجرية .مرت بالفرزدق محنة قاسية لم يذكرها بين المحن التي نالها و لكنها في الحق أشد محنة و أقساها تلك هي محنة زواجه بالنوار.
زواجه بالنوار :
كانت النوار ابنة عمه. و كانت قد تزوجت رجل من مجاشع وَلدت له ابنين ثم مات فخطبها رجل من قومها فبعثت الى الفرزدق_قائلة له : انك أولى قومي فتولٌ تزويجي . فقبل الفرزدق و استغل ثقتها به فزوٌجها نفسه . هذا ما جعل نوار تنفره و تأبى منه هذا الغدر فلجأت الى عبد الله بن الزبير بمكة لكنٌ الفرزدق ظل يلاحقها و قال في شأن ذلك:
فإن اِ مرأ يسعى يخبٌب زوجتي *** كساع الى أسد الشرى يستبليها
فاني كما قالت نوار,ان اِجتلت *** على رجل ,ما سدٌ كفٌي خليلها
و هذا القول يكشف عن روح العناد و الإصرار لدى الفرزدق, و مع هذا واصلت النوار نفورها و سخطها عليه , و هو استأنف تكبره و تعاليه و تمادى في تيهه فيصف نفسه بالجمال اذ يقول متفاخرا : " و أبصرت فتى دارميا كالهلال ",و يعتز بماضيه المجيد و أسرته العريقة . و بدا للفرزدق أن يبدل سيرته بعد زواجه ,و أن يقلع عن حياة اللٌهو لينهج طريقا لا عوج فيه فيرضي زوجه, و في أواخر سنة 65 هـ حج بالنوٌار و يقال أنٌه مرٌ بجرير في ذهابه , و عند عودته الى البصرة أعلن ثوبته قائلا :
و ما صب رجلي في حديد مجاشع *** مع القدر الاٌ حاجة لي أريدها
و حلف ألاٌ يفكٌ قيده حتى يجمع القرآن , و كان يرى في ذلك طاعة تقربه من ربٌه و تغسل عنه آثامه . أمٌا النٌوار فكانت صالحة حسنة الدين , وتذكره دوما أنه تزوجها خدعة و تطالبه بطلاقها , فيحار الفرزدق في أمرها , كيف يتركها وقد آثرها بحبه , و قد بلغ كرهها اياه أن فضلت جريرا عليه فقالت له : "شاركك في مرة و غلبك في حلوة" .و هو يصور ما بلغه من ذلة على يدها تصويرا يملأ النفس شجا و أسى لصدقه :
لـعمري قـد رقـقـتـني قــبل رقــتــي *** و أشعلت فيٌ الشٌيب قبل زماني
و أمضحت عرضي في الحياة وشنته *** و أوقدت لي نارا بكلٌ مكان
فلــولا عقابيــل الفـؤاد الـذي بــــه *** لقد خرجت ثنتان تزدحمـــان
و لكن نسيبا لا يزال يشلني *** اليك كأني مغلق برِهَان
سواء قرين السٌوء في سرع البلى *** على المرء و العصران يختلفان
أراد الفرزدق أن يتغلب على النوار و يثبت لها أنه كفء ليصاهر أكرم بيوت العرب فخطب حدراء بنت زيق الشيبانية و تزوجها على 100 إبل , فلجأت النوار الى جرير تحفزه على هجاء الفرزدق و الإنتقام لها ففعل , و غدت حدراء
محور ست نقائض و عدة قصائد تعارضها جرير و الفرزدق . و شاء القدر و توفيت حدراء فراح جرير ينعى على الفرزدق خيبة امله و يسخر منه إذ قال فاقسم ما ماتت و لكنما التوى بحدراء قوم لم يروك لها اهلا و لكن الفرزدق لم يتعظ بل اعاد الكرة و تزوج رهيمة بنت غنيم بن درهم , امراة من اليرابيع و هم بطن من النمر بن قاسط وكانت فرصة سانحة اخرى امام جرير ليسخر منه و من اصهاره . فنشزته النمرية فطلقها الفرزدق و انشا في هجوها ابياتا ثم تزوج جارية من بني نهشل و حملت منه ثم ماتت فرثاها . ثم جاءته النوار باولاده لبطة,سبطة, خبطة, ركضة و كانت له 5 أو 6 بنات و ذلك لم يقلل اشمئزازها منه فاقبل الفرزدق على طلاقها بعد تمنع . وقد جاوز 80 و لكنه لم يلبث ان ندم على طلاقها:
ندمت ندامة الكسعي لما *** غدت مني مطلقة نوار
و كانت جني فخرجت منها *** كادم حين اخرجه الضرار
و كنت كفاقئ عينيه عمدا *** فاصبح ما يضيء له نهار
و لا يوفي بحب نوار عندي *** و لا كلفي بها الا انتحار
هذه قصة الفرزدق و النوار و قد تركت في نفس الشاعر أبعد الأثار و لونت نظرته الى المرأة و لم تتح له أن يتمتع بالبيت الهادئ اما جرير فقد فراح يصب عليه التهم ينعته شر النعوت مستغلا نفور نوار له .
الفرزدق في نهاية حياته:
بعد النوار تزوج الفرزدق و هو في التسعين من عمره بطيبة بنت دلم لكنها سرعان ما نشزته . و راح الفرزدق يتأسف على شبابه الضائع وبعد وفاة النوار زادت خشيته و فزعه من يوم الدين اذ قال:
اخاف وراء القبر , ان لم يعافني *** اشد من القبر التهابا و اضيقا
ثم نظم قصيدته التي عاهد فيها ربه الا يشتم مسلما و تاب الى الله و هجا ابليس هجاء لا مثيل له في شعر هذا العصر . ما زاد الامر سوءا هو ولاية خالد القسري للعراق و كان الفرزدق قد ذمه فأخذ يمدح خالد و يرجوه باخلاء سبيله . و الغريب ان جرير رجاه ايضا ليطلق سراح الفرزدق . و هكذا خرج من السجن و قد خنق التسعين او كرب . و راح يمدح الولاة و يتقرب منهم . و ظلت اقواله الاخيرة و تصرفاته وثيقة الصلة بسجاياه , ظل يستعذب الشعر الجيد و يرويه و يردده و لم يفارقه اعتزازه بنفسه و بقومه وهو على عتبه الموت و مات الفرزدق سنة 114ه و هو ابن 96 سنة دفن بالبصرة في مقابر بني تميم . و اقامت العلية ابنة اخيه الاخطل على قبره 7 ايام تنحر كل يوم جزورا و بلغ نعيه جريرا فشمت به اول وهله ثم ما لبث ان احس بخطئه و بقائه بعده قليل فرثاه و بكاه الوافد الميمون و حامي تميم . و رثاه ابو ليلى الاوبيض المجاشعي و ذكر عظم الخسارة بفقدانه. و كان لبطة اشهر ابناءه يروي اخباره و اشعاره و بلغ من حبه لابيه ان راه في منامه بعد وفاته و قد غفر له . هذا هو الفرزدق . و كان زمعة بن الفرزدق شاعرا اما البنات فشهرت منهن مكية التي كني بها الفرزدق في شبابه .
اثاره:
نقائض جرير و الفرزدق التي جذبت اليها الادباء , الرواة ,النحاة و اللغويين و تتابعوا على روابتها و شرحها . و كانت نواة حركة ناشطة في القرن 2 حتى اواخر القرن 4 . من رواتها المفضل الضبي الاصمعي, ابو عبيدة معمر بن النثنى التيمي .وقد قال جرير: ما قال لي ابن القين بيتا الا و قد اكتفاته الا قوله
ليس الكرم بنا حليلك اباهم *** حتى ترد الى عطية تعتل
و اما النقيضة الأولى للفرزدق كانت :
الا استهزأت مني هنيدة أن رأت *** أسيرا يداني خطوه حلق الحجل
و قد تفوق الفرزدق في ابداع المعاني و ابتكار الصٌور و غزارة المادة مفاخرا و مهاجيا , و قد قام مقاوم لم يكن جريرا ليقومها و أنٌى له بها و قد قيل : " جرير يغرف من بحر و الفرزدق ينحت من صخر ". كما فضٌل الفرزدق على جرير اذ قال أحد الحكام :" الفرزدق أشعر لأنه أقواهما أسر الكلام و أجراهما في أساليب الشعر ".
و من أبرز النقائض الي تفوق فيها الفرزدق :
ان الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتا دعائمه أعز و أطول
و
تحنٌ بزوراء المدينـة ناقتــي *** حنين عجول تبتغي البورائم
الى جانب النقائض برع الفرزدق في الهجاء اذ كان يهجو الشعراء و قبائلهم و الولاة و الخلفاء و الأمراء , و من بينهم الحجاج بن يوسف الذي أكثر في مدحه و رثائه حتى أعجب به الحجاج وأدرك تفوقه في مدحه فقال: ما أشعر الفرزدق في قوله لي :
لا يألف البخل إنٌ النفس باسلة *** والرٌأي مجتمع والجود منتشر
وكان الفرزدق يمدح ثم يهجو ثم يمدح, و قد نظم مدائح للحكم ابن أيوب و عبد الملك بن مروان و العديد من ولٌاة العراق و أشرافها بغية التكسب أو عرفان بالجميل , و تعتبر قصيدته في مدح زين العابدين علي بن الحسين من أجمل ما نظم :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** و البيت يغرفه و الحلٌ و الحرم
هذا بن خير عباد الله كلٌهم *** هذا التقي النقي الطٌاهر العلم
هذا بن فاطمة ان كنت تجهله *** بجده أنبياء الله قد ختموا
و قد سكن الفخر أعماق نفسه اذ افتخر بقومه و بنفسه و أصله و نظم عدة قصائد تخدم هذا الغرض و من أجمل ما قال متعليا :
أ لستُ أعز الناس قوما و أسرة *** و أمنحهم جارا اذا ضيم جانبه
و قال أيضا:"أنا عند الناس أشعر العرب , وربما كان نزع ضرس أيسر عليّ من أن اقول بيت شعر ". الى جانب هذا برع الفرزدق أيضا في الغزل و ابتدأه بقصيدته في ظمياء التي شهٌر بها و كان غزله ماجنا اهتم بالجوانب الحسية في المرأة , لقد شهٌر المرأة دون تستر و لا حياء . كما نجد له عدٌة أشعار في الرثاء و أولها حين رثى والده غالبا , و رثى أيضا فرسان قبيلته و أبطالها , و بعض زوجاته و بنيه . وخلٌف الفرزدق بعض القصائد في الوصف و من أجمل ما نظم, وصفه زين العابدين علي بن الحسين إذ قال :
ما قال لاقط الا في تشهده *** لولا التشهد كانت لاؤه نعم
الخاتمة:
لقد سمى البلاغيون المذهب الكلامي لأكثر ألوان الفرزدق في البديع عسرا , و هي ألوان عزيزة لم يأت بها المتقدمون و انما هو الذي فتح بابها لما قدمت له من مقدرة تكاثفت فيها موهبة نافذة و علم محيط . أنه الشاعر العبقري الذي تآلف النافر و قيد الشارد و ملك سر العربية , فهو يصرفها كما يشاء , و نهض على يديه فن الفخر و الهجاء و النقائض التي بلغت الغاية التي لا مرقى وراءها . لقد كان واحد من ثلاثة قام على مناكبهم الشعر في العصر الأموي . لم يدع فنا من الفنون الشعر الا نظم فيه , غير أن الفخر كان أغلب ما وافق طبعه . و يليه فن االهجاء و المدح.
أما مصادر ثقافة الفرزدق فهي عديدة وغنية بمضمونها وأولى هذه المصادر اسرة الشاعر التي ورثته المجد والرفعة حيث عرف رجالها الحنكة الناضجة واصابة الرأي وجودة الحكم وسعة المعرفة بأخبار العرب .كما ان البصرة التي كان يقيم فيها وتنقله في الاقطار كالكوفة والمدينة ومكة والشام والتي كانت مراكز العقل العربي زودته بالمعرفة التي كان يطلبها فكانت حلقات العلم ومجالس الجدل والمناظرة في كل جامع وناد وبما ان الفرزدق كان مفطورا على حب المعرفة فقد سعى وراد العلم ليروي ظمأه .ولأنه عرف الكثير من شعر العرب وأخبارها ومعارفها التي وسعت دائرة ثقافته فقد قيل عنه : "لولا الفرزدق لذهب ثلث اللغة ".
وفي القصيدة التالية يعدد الفرزدق اسماء بعض الشعراء الذين وهبوا له قصائدهم :
وهب القصائد لي النوابغ اذ مضوا *** وابو يزيد وذو القروح وجرول
والفحل علقمة الذي كانت له *** حلل الملوك , كلامه لا ينحل
وأخو بني قيس وهنّ قتلنه *** ومهلهل الشعراء ذاك الأول
والأعشيان كلاهما , ومرقش *** وأخو قضاعة قوله يتمثل
إنّ الذي سَمَكَ السّماءَ بَنى لَنَا
بَيْتاً، دَعَائِمُهُ أعَزُّ وَأطْوَلُ
يْتاً بَنَاهُ لَنَا المَلِيكُ، ومَا بَنى
حَكَمُ السّمَاءِ، فإنّهُ لا يُنْقَلُ
الفرزدق
مولده و نشأته:
والفرزدق اسمه همام بصيغة المبالغة من الهمٌة ,سمٌي باسم عمٌه همام بن صعصعة و كان أبوه غالب يناديه بأسم مصغرا هميم وكنيته أبو فراس وهي كنية الأسد أما الفرزدق فلقب غلب عليه وأطال الرواة في سبب تلقيبه و دلالته فقال بعضهم انه كان قصيرا غليظا فشُبه بالفرزدقة و هي الجردقة التي تدق ويشربها النساء , وقيل شبٌه وجهه وكان غليضا جهما وأثر الجذري منطبع فيه بالفرزدق وهو الرغيف الضخم وزعم زاعمون أنه لقب الفرزدق تشبيها له بدهقان الحيرة في تيهه واختلف في أصل الكلمة جعلها بعضهم عربية منحوتة من فرز ودق وجعلها بعضهم فارسية معربة.
وقد عني القدماء باخبار الشاعر وتقصوا أمره وتركوا فيه تآليف عدا الزمن على أكثرها و لم يبق منها الٌا أسماؤها.
ولد الفرزدق في خلافة عمر بن الخطاب في حدود سنة 20 هـ الموافق 641 م بالبصرة التي كانت سوق العرب بعد الاسلام يؤمها الناس للتجارة والمفاخرة والمنافرة وطلب اللغة والادب والشعر . وهُيئت له نشأة طيبة في بيت ورث المجد و فعل المكرمات و كان مألف الاشراف ينتدون فيه, ويتداولون ما يلمّ بهم و يتحدثون بأخبار أسلافهم و يتذاكرون حياة العرب و أيام وقصص فرسانها و أقضية حكامها و يروون ما قاله شعراؤها من فاخر القول و أكرمه. وكان الفرزدق يصغي الى ما يسمع و يحفظ ما يقال, ولقد أوتي الفطنة والذكاء والموهبة اكتسبها من جده صعصعة ذو الرواية الواسعة والمعرفة بأخبار الناس.
وعاش الشاعر الوليد في كنف أبيه غالب ورعايته فأحسن تهديبه و تثقيفه ورواه الشعر وكلام العرب, وكان غالب يؤثر على البصرة الاقامة في بادية بني تميم فنشأ الفرزدق في مرابع كاظمة نشأة فتيان البادية ورث اخلاقها و فضائلها و قبل عاداتها راضيا معتزا و في بادية تميم اتيح له أن ينهل الفصاحة من مناهلها ففتق لسانه وفصح بيانه وأحاط بسر العربية و أوتي القدرة على تشقيق الكلام, فقد كانت تميم من أفصح قبائل العرب.و كان اعرب القوم تميم .لقد كانت بادية تميم أيام الفرزدق تضج بشعرائها الكثر و قد تركت هذه النشأة البدوية آثارها في الشاعر بطابعها فظل طوال حياته يؤثرها.و رأى الفرزدق في أبيه غالب المثل الاعلى الذي يتشوف اليه . و كانت الأيام تزيده إعجابا به و افتخارا, فبالغ في تعظيمه و توقيره و راح يُؤثر خطاه وينهج نهجه , والأب يشجعه على مسلكه .واعتز الفرزدق بأبيه اعتزازا قلٌ أن نجد له نظير. فقد بكاه في شعره لما مات أحر بكاء , وبين عظم الفاجعة فيه :
أبي الصبر أني لا أرى البدر طالعا *** و لا الشمس الا ذكراني بغالب
وادعى أنه ورث أباه في أخلاقه و فضائله :
ورثت أبي أخلاقه عاجل القرى *** و عبط المهارى كومها و شبوبها
وكان الهجاء أول ما تفتحت له نفس الفرزدق . اذ سمع الفرزدق ما قيل يوم صوأر من مفاخرات و مهاجاة بين شعراء حنظلة و يربوع حيث أخذ أحدهم يهجو غالبا والده فامتلأت نفس الفرزدق حنقا وغيظا ,وأخذ يجهد نفسه ليقول كما يُقال لأبيه , حتى لانت له القوافي , و أطاعه القول . واندفع الفرزدق يدافع عن أبيه و أسرته , و نشب الهجاء بينه و بين الأشهب بن رميلة. وأعجب الأب بابنه ,فأخذه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له علي :من هذا معك .قال: ابني و هو شاعر . فقال له: علمه القرآن فانه خير له من الشعر . ولعل عليٌا أراد أن يجنب الفتى قول الرفث و السباب , ليهديه الى ما هو خير . و بعد حين قيد الفتى نفسه ليحفظ القرآن . ثم بدأت بذور الغرام تتفتح بنفس الشاعر عند شبابه و بعد التقائه بظمياء التى شهُر بها و قال فيها :
رأت منقرا سودا قصارا و أبصرت *** فتى دارميا كالهلال يروقها
وهذا ما يدل على أنه لا يبالي الفضيحة و التشهير , و أنه معجبا بنفسه اعجابا تراءى له به. و فوق ذلك تدل القصيدة على تمكن الفرزدق من ناصية الشعر , و موهبته في الوصف و فطرته على الهجاء الذي يمضي به الى الاقذاع الموجع المبكي . بعذ ذلك الافحاش و التشهير بظمياء, قام اللعين المنقري و كانت ظمياء عمته , ينقض على الفرزدق فشهر بشقيقته جعثن , و هنا بدأت معركة الهجاء . اذ ظهر جرير و وقف في وجه الفرزدق يهجوه و يسخر منه .
فراره الى الحجاز:
في سنة 50 هجرية لجأ الشاعر الى الحجاز فارٌا من زياد الذي أشدٌ في طلبه بسبب مهاجاته للأشهب و سبٌه بني نهشل و فقيم, حيث سيد بني نهشل و الأشهب ذو منزلتين و مقامين لدى زياد . و بدأ الشاعر حياة الهرب فالتجأ الى عيسى بن خصيلة السلمي بعد أن تخلى عنه أصدقاؤه و أقرباؤه الذين كان يطمع أن يجد في كنفهم الأمن والسلامة , و اذا الشاعر المتعالي المتباهي يملأ قلبه الشكر و العرفان لمن أمد له يدا أعانته على بلوغ مأمنه, فيمدح عيسى السلمي بقصيدتين جميلتين فيهما عرفان الشاعر بجميل مضيفه و كريم رعايته . فقال:
و من كان يا عيسى يؤنب ضيفه *** فجارك محبور هنيء مطاعمه
و صوٌر الفرزدق خوفه من زياد حتى اعتبر أسدا كان قد لاقاه في طريقه أهون من عاقبة لقيا زياد فقال مخاطبا الأسد :
فلأنت أهون من زياد جانبا *** فاذهب إليك مخرم السفار
قدم الفرزدق المدينة , و أخذ يهجو بني فقيم و يسخر منهم , و كان يتشوق إلى بلده و ما خلفه وراءه . و قد استفتح أولى قصائده بظمياء التي لم يلقها خلال عشر سنوات إذ قال :
إذا أوعدوني عند ظمياء ساءها وعيدي و قالت لا تقولوا له هجرا
و كان الفرزدق يرى في نفسه كل جمال ما دام الشرف و المجد في معتقده رأس كل جمال. كان يحضر مجالس الغناء ويلقى الشعراء , فتعرف على الفتاة الحضرية المدينية و أعجب بها, و تركت في نفسيته أثرا كبيرا دام طيلة حياته .لم يُقدٌر للشاعر البقاء في المدينة يستمرىء هذه الحياة اللينة الوادعة , يخالطها العبث . فقد أقبل في شهر ربيع الأول سنة 53 هـ مروان بن الحكم واليا على المدينة و كان صلبا في ولايته , ضابطا لأموره , لكن الفرزدق لم يلحظ ذلك بل واصل عبثه, و أنشأ قصيدته الرائية الشهيرة , و قد بلغ فيها قمة الجمال في التعبير عن نوازعه و هواجس حسه , حتى قيل فيه : " كان الفرزدق يعهر و يستبهر بالفواحش , لا يبقي على نفسه و لا يستتر ". و هذا ما أثار أهل المدينة , و أنذر مروان الشاعر بمغادرة المدينة .فخرج الى مكة الا أنه لم يمكث بها الا قليلا ثم عاد الى البصرة وأخد يصور في شعره كل ما يحيطه و يحكي أحداث عصره و يتصدى للدفاع عن مواقف قومه و قد ضاع الكثير من شعره في هذه الفترة, فليس في ديوانه الا مقطوعة في مديح ابن زياد . و قصيدة في مديح عبد الرحمن بن الحكم والي الكوفة سنة 58 هجرية .مرت بالفرزدق محنة قاسية لم يذكرها بين المحن التي نالها و لكنها في الحق أشد محنة و أقساها تلك هي محنة زواجه بالنوار.
زواجه بالنوار :
كانت النوار ابنة عمه. و كانت قد تزوجت رجل من مجاشع وَلدت له ابنين ثم مات فخطبها رجل من قومها فبعثت الى الفرزدق_قائلة له : انك أولى قومي فتولٌ تزويجي . فقبل الفرزدق و استغل ثقتها به فزوٌجها نفسه . هذا ما جعل نوار تنفره و تأبى منه هذا الغدر فلجأت الى عبد الله بن الزبير بمكة لكنٌ الفرزدق ظل يلاحقها و قال في شأن ذلك:
فإن اِ مرأ يسعى يخبٌب زوجتي *** كساع الى أسد الشرى يستبليها
فاني كما قالت نوار,ان اِجتلت *** على رجل ,ما سدٌ كفٌي خليلها
و هذا القول يكشف عن روح العناد و الإصرار لدى الفرزدق, و مع هذا واصلت النوار نفورها و سخطها عليه , و هو استأنف تكبره و تعاليه و تمادى في تيهه فيصف نفسه بالجمال اذ يقول متفاخرا : " و أبصرت فتى دارميا كالهلال ",و يعتز بماضيه المجيد و أسرته العريقة . و بدا للفرزدق أن يبدل سيرته بعد زواجه ,و أن يقلع عن حياة اللٌهو لينهج طريقا لا عوج فيه فيرضي زوجه, و في أواخر سنة 65 هـ حج بالنوٌار و يقال أنٌه مرٌ بجرير في ذهابه , و عند عودته الى البصرة أعلن ثوبته قائلا :
و ما صب رجلي في حديد مجاشع *** مع القدر الاٌ حاجة لي أريدها
و حلف ألاٌ يفكٌ قيده حتى يجمع القرآن , و كان يرى في ذلك طاعة تقربه من ربٌه و تغسل عنه آثامه . أمٌا النٌوار فكانت صالحة حسنة الدين , وتذكره دوما أنه تزوجها خدعة و تطالبه بطلاقها , فيحار الفرزدق في أمرها , كيف يتركها وقد آثرها بحبه , و قد بلغ كرهها اياه أن فضلت جريرا عليه فقالت له : "شاركك في مرة و غلبك في حلوة" .و هو يصور ما بلغه من ذلة على يدها تصويرا يملأ النفس شجا و أسى لصدقه :
لـعمري قـد رقـقـتـني قــبل رقــتــي *** و أشعلت فيٌ الشٌيب قبل زماني
و أمضحت عرضي في الحياة وشنته *** و أوقدت لي نارا بكلٌ مكان
فلــولا عقابيــل الفـؤاد الـذي بــــه *** لقد خرجت ثنتان تزدحمـــان
و لكن نسيبا لا يزال يشلني *** اليك كأني مغلق برِهَان
سواء قرين السٌوء في سرع البلى *** على المرء و العصران يختلفان
أراد الفرزدق أن يتغلب على النوار و يثبت لها أنه كفء ليصاهر أكرم بيوت العرب فخطب حدراء بنت زيق الشيبانية و تزوجها على 100 إبل , فلجأت النوار الى جرير تحفزه على هجاء الفرزدق و الإنتقام لها ففعل , و غدت حدراء
محور ست نقائض و عدة قصائد تعارضها جرير و الفرزدق . و شاء القدر و توفيت حدراء فراح جرير ينعى على الفرزدق خيبة امله و يسخر منه إذ قال فاقسم ما ماتت و لكنما التوى بحدراء قوم لم يروك لها اهلا و لكن الفرزدق لم يتعظ بل اعاد الكرة و تزوج رهيمة بنت غنيم بن درهم , امراة من اليرابيع و هم بطن من النمر بن قاسط وكانت فرصة سانحة اخرى امام جرير ليسخر منه و من اصهاره . فنشزته النمرية فطلقها الفرزدق و انشا في هجوها ابياتا ثم تزوج جارية من بني نهشل و حملت منه ثم ماتت فرثاها . ثم جاءته النوار باولاده لبطة,سبطة, خبطة, ركضة و كانت له 5 أو 6 بنات و ذلك لم يقلل اشمئزازها منه فاقبل الفرزدق على طلاقها بعد تمنع . وقد جاوز 80 و لكنه لم يلبث ان ندم على طلاقها:
ندمت ندامة الكسعي لما *** غدت مني مطلقة نوار
و كانت جني فخرجت منها *** كادم حين اخرجه الضرار
و كنت كفاقئ عينيه عمدا *** فاصبح ما يضيء له نهار
و لا يوفي بحب نوار عندي *** و لا كلفي بها الا انتحار
هذه قصة الفرزدق و النوار و قد تركت في نفس الشاعر أبعد الأثار و لونت نظرته الى المرأة و لم تتح له أن يتمتع بالبيت الهادئ اما جرير فقد فراح يصب عليه التهم ينعته شر النعوت مستغلا نفور نوار له .
الفرزدق في نهاية حياته:
بعد النوار تزوج الفرزدق و هو في التسعين من عمره بطيبة بنت دلم لكنها سرعان ما نشزته . و راح الفرزدق يتأسف على شبابه الضائع وبعد وفاة النوار زادت خشيته و فزعه من يوم الدين اذ قال:
اخاف وراء القبر , ان لم يعافني *** اشد من القبر التهابا و اضيقا
ثم نظم قصيدته التي عاهد فيها ربه الا يشتم مسلما و تاب الى الله و هجا ابليس هجاء لا مثيل له في شعر هذا العصر . ما زاد الامر سوءا هو ولاية خالد القسري للعراق و كان الفرزدق قد ذمه فأخذ يمدح خالد و يرجوه باخلاء سبيله . و الغريب ان جرير رجاه ايضا ليطلق سراح الفرزدق . و هكذا خرج من السجن و قد خنق التسعين او كرب . و راح يمدح الولاة و يتقرب منهم . و ظلت اقواله الاخيرة و تصرفاته وثيقة الصلة بسجاياه , ظل يستعذب الشعر الجيد و يرويه و يردده و لم يفارقه اعتزازه بنفسه و بقومه وهو على عتبه الموت و مات الفرزدق سنة 114ه و هو ابن 96 سنة دفن بالبصرة في مقابر بني تميم . و اقامت العلية ابنة اخيه الاخطل على قبره 7 ايام تنحر كل يوم جزورا و بلغ نعيه جريرا فشمت به اول وهله ثم ما لبث ان احس بخطئه و بقائه بعده قليل فرثاه و بكاه الوافد الميمون و حامي تميم . و رثاه ابو ليلى الاوبيض المجاشعي و ذكر عظم الخسارة بفقدانه. و كان لبطة اشهر ابناءه يروي اخباره و اشعاره و بلغ من حبه لابيه ان راه في منامه بعد وفاته و قد غفر له . هذا هو الفرزدق . و كان زمعة بن الفرزدق شاعرا اما البنات فشهرت منهن مكية التي كني بها الفرزدق في شبابه .
اثاره:
نقائض جرير و الفرزدق التي جذبت اليها الادباء , الرواة ,النحاة و اللغويين و تتابعوا على روابتها و شرحها . و كانت نواة حركة ناشطة في القرن 2 حتى اواخر القرن 4 . من رواتها المفضل الضبي الاصمعي, ابو عبيدة معمر بن النثنى التيمي .وقد قال جرير: ما قال لي ابن القين بيتا الا و قد اكتفاته الا قوله
ليس الكرم بنا حليلك اباهم *** حتى ترد الى عطية تعتل
و اما النقيضة الأولى للفرزدق كانت :
الا استهزأت مني هنيدة أن رأت *** أسيرا يداني خطوه حلق الحجل
و قد تفوق الفرزدق في ابداع المعاني و ابتكار الصٌور و غزارة المادة مفاخرا و مهاجيا , و قد قام مقاوم لم يكن جريرا ليقومها و أنٌى له بها و قد قيل : " جرير يغرف من بحر و الفرزدق ينحت من صخر ". كما فضٌل الفرزدق على جرير اذ قال أحد الحكام :" الفرزدق أشعر لأنه أقواهما أسر الكلام و أجراهما في أساليب الشعر ".
و من أبرز النقائض الي تفوق فيها الفرزدق :
ان الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتا دعائمه أعز و أطول
و
تحنٌ بزوراء المدينـة ناقتــي *** حنين عجول تبتغي البورائم
الى جانب النقائض برع الفرزدق في الهجاء اذ كان يهجو الشعراء و قبائلهم و الولاة و الخلفاء و الأمراء , و من بينهم الحجاج بن يوسف الذي أكثر في مدحه و رثائه حتى أعجب به الحجاج وأدرك تفوقه في مدحه فقال: ما أشعر الفرزدق في قوله لي :
لا يألف البخل إنٌ النفس باسلة *** والرٌأي مجتمع والجود منتشر
وكان الفرزدق يمدح ثم يهجو ثم يمدح, و قد نظم مدائح للحكم ابن أيوب و عبد الملك بن مروان و العديد من ولٌاة العراق و أشرافها بغية التكسب أو عرفان بالجميل , و تعتبر قصيدته في مدح زين العابدين علي بن الحسين من أجمل ما نظم :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** و البيت يغرفه و الحلٌ و الحرم
هذا بن خير عباد الله كلٌهم *** هذا التقي النقي الطٌاهر العلم
هذا بن فاطمة ان كنت تجهله *** بجده أنبياء الله قد ختموا
و قد سكن الفخر أعماق نفسه اذ افتخر بقومه و بنفسه و أصله و نظم عدة قصائد تخدم هذا الغرض و من أجمل ما قال متعليا :
أ لستُ أعز الناس قوما و أسرة *** و أمنحهم جارا اذا ضيم جانبه
و قال أيضا:"أنا عند الناس أشعر العرب , وربما كان نزع ضرس أيسر عليّ من أن اقول بيت شعر ". الى جانب هذا برع الفرزدق أيضا في الغزل و ابتدأه بقصيدته في ظمياء التي شهٌر بها و كان غزله ماجنا اهتم بالجوانب الحسية في المرأة , لقد شهٌر المرأة دون تستر و لا حياء . كما نجد له عدٌة أشعار في الرثاء و أولها حين رثى والده غالبا , و رثى أيضا فرسان قبيلته و أبطالها , و بعض زوجاته و بنيه . وخلٌف الفرزدق بعض القصائد في الوصف و من أجمل ما نظم, وصفه زين العابدين علي بن الحسين إذ قال :
ما قال لاقط الا في تشهده *** لولا التشهد كانت لاؤه نعم
الخاتمة:
لقد سمى البلاغيون المذهب الكلامي لأكثر ألوان الفرزدق في البديع عسرا , و هي ألوان عزيزة لم يأت بها المتقدمون و انما هو الذي فتح بابها لما قدمت له من مقدرة تكاثفت فيها موهبة نافذة و علم محيط . أنه الشاعر العبقري الذي تآلف النافر و قيد الشارد و ملك سر العربية , فهو يصرفها كما يشاء , و نهض على يديه فن الفخر و الهجاء و النقائض التي بلغت الغاية التي لا مرقى وراءها . لقد كان واحد من ثلاثة قام على مناكبهم الشعر في العصر الأموي . لم يدع فنا من الفنون الشعر الا نظم فيه , غير أن الفخر كان أغلب ما وافق طبعه . و يليه فن االهجاء و المدح.
أما مصادر ثقافة الفرزدق فهي عديدة وغنية بمضمونها وأولى هذه المصادر اسرة الشاعر التي ورثته المجد والرفعة حيث عرف رجالها الحنكة الناضجة واصابة الرأي وجودة الحكم وسعة المعرفة بأخبار العرب .كما ان البصرة التي كان يقيم فيها وتنقله في الاقطار كالكوفة والمدينة ومكة والشام والتي كانت مراكز العقل العربي زودته بالمعرفة التي كان يطلبها فكانت حلقات العلم ومجالس الجدل والمناظرة في كل جامع وناد وبما ان الفرزدق كان مفطورا على حب المعرفة فقد سعى وراد العلم ليروي ظمأه .ولأنه عرف الكثير من شعر العرب وأخبارها ومعارفها التي وسعت دائرة ثقافته فقد قيل عنه : "لولا الفرزدق لذهب ثلث اللغة ".
وفي القصيدة التالية يعدد الفرزدق اسماء بعض الشعراء الذين وهبوا له قصائدهم :
وهب القصائد لي النوابغ اذ مضوا *** وابو يزيد وذو القروح وجرول
والفحل علقمة الذي كانت له *** حلل الملوك , كلامه لا ينحل
وأخو بني قيس وهنّ قتلنه *** ومهلهل الشعراء ذاك الأول
والأعشيان كلاهما , ومرقش *** وأخو قضاعة قوله يتمثل
jazila- دائم الحضور
-
عدد المساهمات : 1000
العمر : 33
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى